بقلم/ عمرو الحداد
رئيس قطاع منتجات رأس المال بالشرق الأوسط، إفريقيا و شرق اوروبا بشركة كيريبا
لعقود…أستمر التقدم العلمي في التطور بسرعة هائلة في جميع المجالات. و في السنوات الأخيرة، و بعد حوالي عقدين من أول عملية بنكية عبر الإنترنت، ظهرت صناعة التكنولوچيا المالية كمقدم خدمات تكنولوجية لقطاع الشركات و البنوك لتسهيل و تحديث انظمة وعمليات المدفوعات و تمويل سلاسل الإمداد بجانب خدمات مالية اخري. و بمرور السنوات نمت تلك الصناعة حتي وصلت قيمتها السوقية الي حوالي ١١٢.٥ مليار دولار عام ٢٠٢١ مع توقع ان يزيد هذا الرقم عن ٣٣٢ مليار دولار بنهاية عام ٢٠٢٨. أما أرباح تلك الصناعة فقد سجلت حوالي ١٠٥ مليار دولار في عام ٢٠١٨ و ستصل إلي أكثر من ٢٢٠ مليار دولار في عام ٢٠٢٤. مع تنامي هذا القطاع المطرد بجانب تزايد الإعتماد علي التكنولوچيا الرقمية بشكل عام يثور السؤال عما إذا كان قطاع التكنولوچيا المالية سيحل محل المصارف التجارية في خدمة و تمويل قطاع الشركات أم سيكون هناك شكل من أشكال التعاون بين القطاعين. هذا المقال هو محاولة بسيطة للإجابة عن هذا السؤال.
في عام ٢٠١٨ و في أثناء إلقائي محاضرة بأحد المؤتمرات الاقليمية، خطر لي أن أسأل الحضور عن عالم الغد و هل يفضلون التعامل فيه مع مصرف أم مع شركة تكنولوچيا مالية، و جائني الرد سريعا و حاسماً من عدد من ممثلي الشركات متعددة الجنسيات العاملة بالشرق الاوسط و أفريقيا: سنتعامل مع صاحب الخدمة الافضل و الأرخص. لم يكن تاريخ التعاون المشترك عاملاً ذو اهمية كبيرة كما ظننت. ربما كان ذلك نوع من أنواع التنبيه المبكر ان أسواق الشرق الاوسط قد بدأت في استيعاب الوافد الجديد (شركات تكنولوچيا المعلومات) و التمتع بخدماتها الغير تقليدية و حلولها السريعة المبتكرة. و ربما كانت تلك ايضاً رسالة ضمنية بإن علي القطاع المصرفي الذي شرفت بالإنتماء إليه التحرك بشكل أسرع لمواكبة سوق تتغير معطياته بشكل شبه يومي.
و انتشر مصطلح ان شركات التكنولوچيا المالية تتسبب في تغيير جذري لطريقة عمل المصارف التقليدية و هذا صحيح إلي حد بعيد، و كثرت المقالات التي تتوقع نهاية عمل المصارف و هي مبالغة كبيرة . و بين هذا و ذاك استمرت المصارف و ستستمر في تحصيل الودائع من عملائها و توظيف تلك العوائد في خدمة عملاء اخرين بحاجة للتمويل، و عملت علي تطوير منتجاتها التقليدية لتحقيق رغبات عملائها بغرض مواكبة التطور العالمي و سد احتياجات قطاع الشركات في بيئة شديدة التنافسية و في ظل تشريعات مالية صارمة. و بالطبع لا يمكن اغفال دور المصارف الحيوي في تمويل العديد من القطاعات بالإضافة إلي ضبط المخاطر مع تزايد التوقعات بانكماش عالمي كنتيجة للنزاع الروسي الأوكراني و كأثر اقتصادي لحقبة انتشار ڤيروس كوڤيد ١٩. و لكنها علي الجانب الآخر، و لكي تستمر في المنافسة، ستضطر المصارف للجوء لمطوري تطبيقات رقمية بقدرات فنية عالية لتستطيع تقديم خدماتها بشكل رقمي في عالم تتسارع خطواته و يتجه الآن الي إدارة اعماله عبر الواقع الإفتراضى .
علي الجانب الآخر ستظل شركات التكنولوچيا المالية تبتكر حلولا غير تقليدية سواء في مجال المدفوعات ، مجالات تمويل سلاسل الإمداد، او مجالات اخري عديدة مستفيدة من كونها لا تخضع لبعض الضوابط التي تخضع لها البنوك كونها ليست مؤسسات مالية، و كذلك من كونها شركات تكنولوچيا بالأساس لم ترث انظمة عمليات قديمة لا بد من تحديثها كالمصارف. كما ستستغل شركات التكنولوچيا المالية ميزة سهولة حصولها علي التمويل في ظل نمو أرباحها المطرد مقارنة بغيرها من الصناعات. من المتوقع ايضا ان ينمو التعاون بين شركات التكنولوچيا المالية و شركائها العديدين من البنوك، شركات التأمين، شركات التمويل البديل، موسسات إدارة الاستثمار…الخ في شبكة بيئية ضخمة لا تتمتع بها كثير من الصناعات. و اخيراً ستتمتع شركات التكنولوجيا المالية ايضا بتأييد أكبر من السوق الذي يتجه للمزيد من رقمنة العمليات و يحتاج لدعم تكنولوچي من تلك الشركات.
كل ما سبق يدل علي ان الصناعة الجديدة تمثل تحدياً للعمليات المصرفية التقليدية بجانب تحديات أخري متواجده بالفعل. تحدي ربما يكون محفزاً للمصارف لتغيير جذري في طريقة تنفيذ العمليات المصرفية و إيجاد صيغة تعاون مشترك او حلول مبتكرة لمنافسة شركات التكنولوچيا المالية.
في النهاية أتوقع انه في ظل تزايد الشروط و ربما القيود التي يفرضها المشرعون سواء المحليون او من خلال القواعد العالمية مثل بازل ٣ و التي فرضت تخصيص رأس مال بنسبة ١٠٠٪ من قيمة العديد من عمليات التمويل التجاري او بازل ٤ المتوقع تطبيقها بشكل كامل في خلال خمس سنوات و في ظل منافسة محتدمة بين البنوك و انخفاض أسعار الخدمات المختلفة فربما تلجأ المصارف و خاصة العالمية لتقنين توفير عمليات التمويل التجاري و تنظيم المدفوعات و حصرها علي العملاء ذوي مخاطر التأمين الاقل و العائد الأعلي و ترك تلك الساحة لشركات التكنولوچيا المالية و مستثمرين يرغبون في اختراق ذلك المجال الآمن صاحب نسبة الاقل من ١٪ تخلف عن سداد الاستحقاقات. ربما ستقرر بعض المصارف ايضا أن تتخصص في تقديم منتجات مصرفية معينة تجيد تقديمها تاركة ساحة اكبر و منتجات اكثر لشركات التكنولوچيا المالية، و ربما يقرر بعض المصارف ان تفوض شركات تكنولوچيا مالية لإدارة بعض منتجاتها ذات التكلفة العالية. او حتي ان تعتبر نفسها شركة تكنولوچيا عملاقة تقدم خدمات تكنولوچية و مالية لعملائها و بالتالي تخصص جزء كبير من ميزانيتها للإنفاق علي التكنولوچيا الرقمية.
و الخلاصة: أياً كان شكل التعاون او المنافسة بين القطاع المصرفي و قطاع التكنولوچيا المالية حالياً او مستقبلاً فالمؤكد ان قطاع الشركات و الافراد هم المستفيد الأول من وجود اكثر من مقدم خدمة. و إذا تم التعاون بين القطاعين بشكل ناجح فإن النفع سيكون كبيرا علي الأسواق المالية بشكل عام. سترسم السنوات القليلة القادمة شكل هذا التعاون فدعنا نعمل و نرى.