بقلم هبه علاء الدين، رئيس مجلس ادارة شركة بانكرز هب اكاديمي للتدريب والاستشارات
في أي اقتصاد حول العالم، تظل البنوك هي القلب الذي يضخ الدماء في شرايين السوق. فبينما يرى البعض أن البنك مجرد مؤسسة مالية لحفظ الأموال أو منح القروض و دوره كوسيط بين المودعين والمقترضين، إلا أن الحقيقة أعمق بكثير. فالبنك هو المحرك الخفي لكل دورة اقتصادية، والوسيط الذكي الذي يربط بين أصحاب الفوائض المالية وأصحاب الأفكار والمشروعات الباحثة عن التمويل. ومن هنا تبدأ القصة الحقيقية لدور البنوك في التنمية الاقتصادية.
تعمل البنوك على تحويل المدخرات الصغيرة إلى استثمارات كبيرة. فعندما يودع الأفراد أموالهم في البنوك، لا تبقى هذه الأموال ساكنة ليست مجرد خزن لحفظ الاموال ، بل تُعاد توجيهها إلى قطاعات الإنتاج والخدمات والتجارة، من خلال القروض والتمويلات. هذا التدفق المستمر للأموال يخلق دورة اقتصادية متكاملة، تُولد وظائف جديدة، وتدعم الشركات الصغيرة والمتوسطة، وتُنشّط السوق المحلي. ويمكن القول إن كل قرض يمنحه بنك، هو في حقيقته مشروع جديد يولد في قلب الاقتصاد.
ولعل أبرز الأمثلة على دور البنوك في دفع عجلة التنمية هو ما حدث في سنغافورة، تلك الدولة الصغيرة التي تحولت خلال عقود قليلة إلى مركز مالي عالمي. فبفضل نظام مصرفي منضبط ومبني على الابتكار والثقة، أصبحت سنغافورة وجهة رئيسية لرؤوس الأموال والاستثمارات الأجنبية. كذلك نجحت الإمارات العربية المتحدة في بناء اقتصاد متنوع وقوي عبر قطاع مصرفي حديث ومتطور، ساهم في دعم رواد الأعمال وتمويل المشروعات الجديدة، مما جعل دبي اليوم واحدة من أهم المراكز المالية في الشرق الأوسط.
أما في مصر، فقد لعبت البنوك دورًا جوهريًا في تمويل مشروعات البنية التحتية الكبرى، مثل العاصمة الإدارية الجديدة ومشروعات الطاقة، إلى جانب دعم مبادرات الشمول المالي والتحول الرقمي، وهو ما ساعد على استقرار الاقتصاد في فترات التحديات الاقتصادية العالمية.
ولا يقتصر دور البنوك على التمويل فقط، بل تمتد مسؤوليتها إلى تحقيق الاستقرار النقدي. فالبنوك هي الذراع التنفيذية لسياسات البنك المركزي، تساهم في ضبط معدلات التضخم، وتنظيم حركة السيولة، والحفاظ على استقرار العملة. ومن خلال أدوات مثل أسعار الفائدة والاحتياطي النقدي، تستطيع البنوك التأثير بشكل مباشر على النمو الاقتصادي والاستثمار، وهو ما يجعلها لاعبًا رئيسيًا في تحقيق التوازن المالي للدولة من خلال السياسات النقدية وادواتها.
وفي عصر التكنولوجيا، أصبحت البنوك شريكًا أساسيًا في التحول الرقمي الذي يشهده العالم.
لقد طورت التكنولوجيا وجه العمل المصرفي العالمي، وأتاحت للعميل تنفيذ عملياته المالية بضغطة زر، دون الحاجة للذهاب إلى الفروع. هذا التطور لم يسهم فقط في تسهيل حياة الأفراد، بل خلق طفرة في كفاءة الخدمات المصرفية، وفتح الباب أمام ملايين من غير المتعاملين مع البنوك للدخول في المنظومة المالية الرسمية. وهكذا أصبحت البنوك الرقمية أحد أهم أدوات تحقيق الشمول المالي، الذي يُعد شرطًا أساسيًا لتحقيق العدالة الاقتصادية والنمو المستدام والتوجه نحو البنوك الرقمية.
ونرى مثالًا واضحًا لذلك في الهند، التي حققت طفرة رقمية بفضل مبادرات مصرفية مثل “India Stack” و“UPI”، ما جعل الخدمات المالية تصل إلى مئات الملايين من المواطنين بسهولة وأمان، وأسهم في نمو الاقتصاد الهندي بوتيرة متسارعة.
ولا يمكن تجاهل الدور الاجتماعي للبنوك، الذي أصبح جزءًا لا يتجزأ من استراتيجياتها الحديثة. فالمؤسسات المصرفية اليوم لا تسعى فقط إلى تحقيق الأرباح، بل إلى إحداث أثر مجتمعي حقيقي. من دعم المشروعات الصغيرة وريادة الأعمال، إلى تمويل مبادرات المرأة والشباب، والمشاركة في برامج المسؤولية المجتمعية، تسهم البنوك في بناء اقتصاد أكثر شمولًا وإنسانية، يوازن بين الربح والتنمية وتمويل المشروعات المستامة.
في كينيا مثلًا، أسهم انتشار الخدمات المصرفية عبر الهاتف مثل “M-Pesa” في تغيير حياة الملايين، ورفع مستوى المعيشة في المناطق الريفية، مما جعل الاقتصاد أكثر شمولًا واستقرارًا.
إن العلاقة بين البنوك والاقتصاد تشبه تمامًا علاقة القلب بالجسد. فإذا ضعف الجهاز المصرفي، تباطأت حركة النمو، واهتز استقرار الأسواق. وتباطىء النمو الاقتصادي أما حين يكون النظام البنكي قويًا، منظمًا، ومواكبًا للتطور، فإنه يضمن تدفق الأموال بأمان وكفاءة، ويُشجّع الاستثمار، ويُعيد الثقة للمناخ الاقتصادي ككل. فالبنك الحديث لم يعد مجرد “خزنة أموال”، بل أصبح عقلًا اقتصاديًا يُخطط، ويُموّل، ويبتكر، ويقود.
باختصار، كل خطوة اقتصادية ناجحة تبدأ من مؤسسة مصرفية واعية متطورة، وكل نمو مستدام يحتاج إلى بنك قادر على أن يكون همزة الوصل بين رأس المال والفكرة، بين الطموح والواقع، وبين المواطن والفرصة.
وحيث توجد بنوك قوية… يوجد اقتصاد قوي.