بقلم د. شيماء وجيه، خبيرة مصرفية
يشهد السوق المالي المصري تحولات نوعية في فلسفة إدارة الدين العام، ويعد التوسع في إصدار الصكوك السيادية أبرز هذه التحولات. لم تعد أدوات الدين الحكومية تقتصر على تغطية فجوات السيولة أو التمويل قصير الأجل، بل أصبحت أدوات استراتيجية تهدف إلى تنويع مصادر التمويل، تحسين كفاءة التسعير، وإطالة متوسط عمر الدين، بما يحد من المخاطر المرتبطة بالاعتماد المفرط على السندات التقليدية وأذون الخزانة ذات القاعدة الاستثمارية المحدودة.
الصكوك السيادية، ومن بينها الصكوك القائمة على هيكل الإجارة، تمثل أداة تمويلية تجمع بين الانضباط المالي وجاذبية الاستثمار، مع القدرة على استقطاب شرائح جديدة من المستثمرين المحليين والإقليميين الباحثين عن أدوات متوافقة مع الشريعة الإسلامية دون التضحية بالشفافية أو قواعد المحاسبة.
من الناحية الاقتصادية، فإن تسعير الصكوك عند مستويات عائد مرتفعة نسبيًا يعكس دلالتين؛ أولًا، يعكس تكلفة الأموال في السوق المحلية في ظل معدلات الفائدة الحالية، وثانيًا، يشير إلى نجاح الدولة في خلق أداة بديلة قادرة على المنافسة مع السندات التقليدية مع الحفاظ على جاذبيتها الاستثمارية. ورغم أن العائد المرتفع قد يبدو عبئًا قصير الأجل على الموازنة، إلا أن القراءة الأعمق تشير إلى أن الصكوك تسهم في تقليل التكلفة الكلية على المدى المتوسط عبر توسيع قاعدة الطلب، تنويع آجال الاستحقاق، وتحقيق استقرار أكبر في خدمة الدين.
اعتماد هيكل الإجارة في الإصدارات السيادية يعكس توجهًا مدروسًا نحو أدوات مدعومة بأصول حقيقية، ما يعزز الثقة الاستثمارية ويقلل المخاطر الائتمانية، خصوصًا لدى المؤسسات التي تفضل الربط بالأصول الملموسة بدل الالتزامات المالية التقليدية. كما أن توحيد المعاملة الضريبية والمحاسبية للصكوك مع سندات الخزانة يعالج التحديات التاريخية المتعلقة بعدم تناسق التشريعات، ويضمن عدالة المنافسة، بما يدعم كفاءة السوق ويجنب المستثمرين تحيزات سعرية غير مبررة.
من منظور إدارة الدين العام، فإن إدراج الصكوك ضمن برنامج واسع النطاق يعكس انتقال وزارة المالية من مرحلة الإصدارات التجريبية إلى التخطيط الاستراتيجي طويل الأجل، حيث تصبح الصكوك أداة أساسية في هيكل الدين، ما يطيل متوسط العمر، يقلل مخاطر إعادة التمويل، ويخلق منحنى عائد متنوع وذو عمق أكبر، مفيد لصانعي السياسات والمستثمرين على حد سواء، ويمنح السوق إشارات دقيقة حول اتجاهات التسعير والتوقعات الاقتصادية.
على مستوى السوق المالية، تفتح الصكوك السيادية الباب أمام مدخرات كانت خارج الإطار الرسمي لأدوات الدين، سواء من الأفراد أو المؤسسات ذات التوجه الاستثماري المحافظ، بما يعزز الشمول المالي ويرفع كفاءة تعبئة المدخرات المحلية. كما أن تنويع أدوات الدين يقلل من التزاحم الائتماني مع القطاع الخاص، ويتيح للبنوك والمؤسسات المالية إدارة محافظها الاستثمارية دون مخاطر تركّز مرتفعة على نوع واحد من الأصول الحكومية.
ولا يمكن النظر إلى التوسع في الصكوك السيادية بمعزل عن الإصلاحات المالية العامة الأشمل؛ فهي حلقة وصل بين التمويل، الاستدامة، وتعميق السوق، مع استهداف شرائح جديدة من المستثمرين. ومع تطوير سوق ثانوية نشطة ووضوح هيكل الإصدارات المستقبلية، يمكن أن تتحول الصكوك السيادية من أداة تمويل بديلة إلى ركيزة أساسية في إدارة الدين العام، بما يدعم الاستقرار المالي ويعزز ثقة المستثمرين في الاقتصاد المصري على المدى المتوسط والطويل.