بقلم: هبه علاء الدين، رئيس مجلس ادارة شركة بانكرز هب اكاديمي للتدريب والاستشارات
هل يمكن أن تفقد النقود معناها الذي عرفناه يومًا؟ أن يتحول المال من أوراق تُطبع في خزائن البنوك إلى رموز رقمية تُولد داخل أنظمة خفية؟ ومَن يملك زمام هذه التحولات،
هل سيكون صاحب القرار في الاقتصاد العالمي المقبل؟ تساؤلات لم تعد بعيدة عن الواقع، فالعالم يعيش اليوم سباقًا جديدًا من نوع آخر… سباق على من يكتب مستقبل النقود
تخيّل أن النقود التي نحملها قد تختفي تمامًا، وأن راتبك ومدخراتك قد تتحول إلى أرقام تُدار داخل نظام مركزي لا ورق فيه ولا عملات معدنية. قد يبدو المشهد أقرب إلى الخيال، لكنه أصبح حقيقة تتشكل بسرعة في صمت. فالعالم اليوم يخوض سباقًا محمومًا لا في مصانع أو أسواق، بل في مختبرات البنوك المركزية، حيث تُرسم ملامح مستقبل النقود عبر ما يُعرف بـالعملات الرقمية للبنوك المركزية (CBDCs)
بعد سنوات من هيمنة العملات المشفرة الخاصة مثل “البتكوين” و“الإيثيريوم”، قررت الدول الكبرى أن الوقت قد حان لـاستعادة السيطرة على النظام النقدي، ولكن بأسلوب جديد
فهذه العملات الرقمية الرسمية تمثل النسخة الحكومية من النقود الرقمية، تصدرها البنوك المركزية نفسها وتخضع لرقابتها المباشرة، مما يجعلها أكثر استقرارًا وأمانًا مقارنة بالعملات المشفرة الحرة. إلا أن هذا التحول لا يقف عند حدود التقنية، بل يتجاوزها إلى أبعاد اقتصادية وسياسية عميقة، إذ تسعى كل دولة إلى أن تكون صاحبة الكلمة الأولى في عالم المال الرقمي المقبل.
كانت الصين أول من أدرك أهمية السباق، فأطلقت منذ عام 2020 مشروع “اليوان الرقمي” الذي وصل إلى مراحل متقدمة من التطبيق. في مدن مثل شنجهاي وشينزن، بات المواطن الصيني يستخدم تطبيقات الدفع الرقمية المرتبطة بالبنك المركزي، دون الحاجة إلى حساب بنكي تقليدي. خطوة تُعد ثورة مالية حقيقية تختصر المسافة بين الدولة والمواطن، وتمنح بكين سيطرة أكبر على تدفق الأموال داخل الاقتصاد. إلا أن البُعد الأعمق للمشروع يتمثل في طموحه الجيوسياسي، فكل معاملة تتم باليوان الرقمي تقلل من الاعتماد على الدولار الأمريكي، وتعيد رسم موازين القوة المالية العالمية. وقد بدأت الصين بالفعل اختبار المدفوعات الرقمية عبر الحدود مع روسيا وتايلاند والإمارات ضمن مشروع “mBridge”، في إشارة واضحة إلى رغبتها في تأسيس نظام تسوية دولي جديد.
أما أوروبا، فتتحرك بخطوات بطيئة ومحسوبة نحو “اليورو الرقمي”، إذ يدرك البنك المركزي الأوروبي أن أي تسرّع قد يُربك النظام المصرفي القائم. لذلك يسعى الأوروبيون إلى تحقيق توازن دقيق بين الابتكار والحماية، وبين الكفاءة والخصوصية مع مواكبة التطورالتكنولوجي السريع لتقديم نموذج رقمي يحافظ على ثقة المواطنين وفي الوقت ذاته يدعم تنافسية العملة الأوروبية.
في حين ما تزال الولايات المتحدة، رغم هيمنة الدولار، مترددة في إطلاق عملتها الرقمية الخاصة، إذ ينظر الاحتياطي الفيدرالي إلى الأمر من زاوية تأثيره المحتمل على مكانة الدولار كعملة احتياط عالمية. فكل خطوة غير محسوبة قد تمنح منافسين جدد فرصة لانتزاع النفوذ المالي من واشنطن.
لكن هذا التردد، وإن بدا حذرًا، يفتح الباب أمام الصين لتوسيع نفوذها في الأسواق الناشئة، وربما فرض نموذجها المالي على بقية العالم.
على امتداد التاريخ، لم تكن الصراعات بين الدول تدور حول الأرض أو السلاح فحسب، بل حول من يملك مفاتيح النفوذ المالي والاقتصادي. فقد تغيّر معيار القوة من الذهب إلى البترول، ثم إلى القدرة على توجيه الأسواق والتحكم في حركة العملات.
اليوم تتجدد هذه الصراعات في ثوب رقمي جديد، حيث تحاول القوى العظمى بناء نظام مالي خاص بها يضمن استمرار نفوذها وموقعها في مركز القرار العالمي.
ولا يدور هذا السباق بعيدًا عنا، بل يقترب من منطقتنا العربية يومًا بعد يوم. فالدول العربية — وعلى رأسها مصر — بدأت تدرك أن السيادة في المستقبل لن تكون فقط على الأرض، بل على الأنظمة المالية الرقمية
. ففي الوقت الذي تُسرّع فيه الصين وأوروبا خطواتهما نحو نقود بلا ورق، يتحرك البنك المركزي المصري بخطوات مدروسة نحو التحول الرقمي الكامل وتعزيز نظم المدفوعات الإلكترونية، مع بحث مستقبل “الجنيه الرقمي” كأداة محتملة للاندماج في الاقتصاد العالمي الجديد.
دخول مصر والدول العربية هذا المسار لا يعني مجرد تحديث تقني، بل سعيًا لتأمين مكان في خريطة النفوذ المالي المقبلة، حيث ستصبح العملة أداة قوة ومكانة لا تقل أهمية عن النفط أو التجارة. ومع ذلك، فإن النجاح الحقيقي لن يتحقق إلا إذا وثق المواطن في هذا التحول ورآه وسيلة لتيسير حياته لا لمراقبتها.
في نهاية المطاف، من يملك النقود أو بالأحرى من يملك مستقبل النقود هو من سيملك الكلمة العليا في الاقتصاد العالمي القادم. والسؤال الذي يبقى مطروحا أمام الجميع: هل سنكتفي بالمراقبة، أم سنكتب نحن أيضًا سطرًا من قصة النقود الجديدة؟