بقلم: د. شيماء وجيه، خبيرة اقتصادية ومصرفيه
في قلب الجيزة، وعلى بُعد أمتار من أهرامات الجيزة الخالدة، يقف المتحف المصري الكبير ليس كمجرد صرح أثري ضخم، بل كمنصة اقتصادية وتنموية تعيد رسم علاقة مصر بتاريخها العريق، وتفتح فصلاً جديداً في مفهوم “الاستثمار في الهوية”. فالمتحف، الذي يوصف بأنه أكبر متحف أثري في العالم، لا يُنظر إليه اليوم بوصفه فقط خزينةً لكنوز الفراعنة، بل كأداة استراتيجية لتحريك قطاعات الاقتصاد الوطني، وكمحركٍ حقيقي للنمو المستدام.
التراث كأصل اقتصادي
منذ انطلاق فكرة المشروع، تعاملت الدولة المصرية مع المتحف باعتباره مشروعاً اقتصادياً بُني على أساس ثقافي. ففلسفة إنشائه تتجاوز فكرة العرض المتحفي إلى توظيف التاريخ كـ”أصل اقتصادي” يولّد القيمة والعائد، ويخلق فرص عمل، ويعزز من موارد الدولة. بهذا المعنى، يمثل المتحف المصري الكبير نموذجاً متكاملاً لما يعرف بـ“اقتصاد الهوية” — أي الاقتصاد الذي يستثمر في الرموز الحضارية والتراث الثقافي باعتبارها أصولاً إنتاجية قادرة على توليد الدخل والنمو.
أثر مباشر على الاقتصاد الكلي
الافتتاح المرتقب للمتحف، الذي يحظى باهتمام عالمي غير مسبوق، من شأنه أن يرفع من معدلات النمو الحقيقي للناتج المحلي من خلال زيادة مساهمة قطاع السياحة، وهو أحد أهم مصادر النقد الأجنبي في مصر. التقديرات تشير إلى أن تدفق الوفود والزوار من مختلف أنحاء العالم سيؤدي إلى قفزة في عدد السائحين، وبالتالي زيادة في الإيرادات السياحية وتحسن في ميزان المدفوعات، مما ينعكس إيجابياً على احتياطي النقد الأجنبي.
لكن الأثر لا يتوقف عند حدود السياحة المباشرة، فالمتحف سيفتح دوائر اقتصادية متشابكة تشمل النقل، والتجارة، والفندقة، والحرف اليدوية، وخدمات التسويق الثقافي. هذا “الأثر المضاعف” سيخلق آلاف فرص العمل المباشرة وغير المباشرة، ويُسهم في تنشيط الطلب المحلي، ويدعم أهداف رؤية مصر 2030 نحو تنمية شاملة ومستدامة.
قوة ناعمة تعيد رسم الصورة الذهنية
على الصعيد الدولي، يمثل المتحف المصري الكبير أداةً استراتيجية للقوة الناعمة. فالمشروع يبعث برسالة ثقة إلى العالم بأن مصر قادرة على تنفيذ مشروعات كبرى بمعايير عالمية رغم التحديات الاقتصادية، وهو ما يعزز من تصنيفها الائتماني ويقوّي ثقة المستثمرين الدوليين في صلابة الاقتصاد المصري.
إن صورة مصر الحديثة التي تجمع بين عبق التاريخ وروح التطوير، تعيد تموضعها في الأسواق العالمية كدولة قادرة على تحويل حضارتها إلى رأسمال دبلوماسي واقتصادي في آن واحد.
اقتصاد المعرفة والإبداع
يمتد تأثير المتحف ليشمل مجال الاقتصاد المعرفي والإبداعي، حيث يشكل منصة لتوليد المعرفة والبحث والتعليم والتكنولوجيا. فالمتحف لا يكتفي بعرض القطع الأثرية، بل يُقدّم تجربة تعليمية وثقافية متكاملة، قادرة على دعم صناعات المحتوى الثقافي والإعلامي والسياحة التعليمية. هذه القطاعات تُعد من أكثر المجالات القادرة على خلق قيمة مضافة مرتفعة، وتعزز من القدرة التنافسية للاقتصاد المصري بعيداً عن الاعتماد على الموارد التقليدية.
رسالة داخلية وخارجية
يأتي افتتاح المتحف في توقيت دقيق يحمل رسالتين واضحتين:
من الداخل: تأكيد على أن الدولة المصرية ماضية في مسار التنمية والإصلاح، وتملك الإرادة على استكمال مشروعاتها الكبرى رغم الضغوط الاقتصادية العالمية.
ومن الخارج: دعوة صريحة للاستثمار في الاقتصاد الثقافي، الذي أصبح أحد أسرع القطاعات نمواً في العالم، وركيزة أساسية في الاقتصاد الجديد القائم على المعرفة والهوية.
التاريخ كمورد استراتيجي
المتحف المصري الكبير لا يروي فقط قصة حضارة عمرها سبعة آلاف عام، بل يكتب فصلاً جديداً في قصة الاقتصاد المصري. فهو يجسد رؤية شاملة تربط بين الماضي والمستقبل، بين التراث والتنمية، في معادلة فريدة تجعل من التاريخ مورداً استراتيجياً يولّد القيمة ويخلق الفرص.
إنه مشروع يختصر فلسفة التنمية الحديثة: أن النمو الحقيقي لا يصنعه الحديد والإسمنت وحدهما، بل الثقافة والانتماء والهوية. فحين يتحول التراث إلى استثمار، والحضارة إلى قوة اقتصادية ناعمة، تصبح مصر نموذجاً عالمياً في تسخير التاريخ لصناعة المستقبل.