بقلم د. شيماء وجيه
في مشهد اقتصادي سريع التحول، تتجه مصر بثبات نحو بناء اقتصاد رقمي متكامل، يقوده البنك المركزي المصري برؤية استراتيجية تستند إلى الثقة والشفافية والتحول التكنولوجي. وتأتي مبادرة «الهوية الرقمية» كأحد أهم المشروعات السيادية التي تمثل خطوة فارقة في تعزيز البنية التحتية المصرفية وتحقيق الشمول المالي. فليست الهوية الرقمية مجرد وسيلة لتبسيط الخدمات البنكية، بل هي مشروع متكامل لإعادة صياغة العلاقة بين المواطن والمؤسسات المالية في عصر الاقتصاد القائم على البيانات.
تعمل الهوية الرقمية على تأسيس قاعدة موحدة وآمنة لهويات العملاء، تمكّن البنوك والمؤسسات المالية من تقديم خدمات مخصصة وسريعة دون الحاجة للإجراءات الورقية التقليدية، وهو ما يختصر الزمن والتكلفة ويحدّ من المخاطر التشغيلية. وفي ظل التطورات المتسارعة في التكنولوجيا المالية وازدياد الاعتماد على القنوات الإلكترونية، باتت الهوية الرقمية تمثل العمود الفقري لاقتصاد الثقة الجديد، الذي يجعل من البيانات الدقيقة والمصادقة الآمنة أداة لضمان سلامة المعاملات وتحقيق التكامل بين مختلف القطاعات المالية.
ويأتي إطلاق مشروع الهوية الرقمية في توقيت بالغ الأهمية، حيث يشهد الاقتصاد المصري طفرة في البنية التكنولوجية للمؤسسات المصرفية، مع تزايد استخدام المحافظ الإلكترونية وتنامي نشاط المدفوعات الرقمية. وقد أدرك البنك المركزي مبكرًا أن بناء منظومة مالية رقمية متطورة يتطلب تأسيس هوية رقمية موثوقة، تكون الأساس الذي تُبنى عليه جميع التطبيقات والخدمات المصرفية المستقبلية. فالهوية الرقمية تمكّن المواطن من إجراء كافة معاملاته البنكية عبر المنصات الرقمية بأمان، بدءًا من فتح الحسابات وحتى الحصول على القروض والخدمات الاستثمارية.
وسيسهم المشروع في تعميق الشمول المالي بشكل غير مسبوق، من خلال إدماج شرائح واسعة من المواطنين في المنظومة الرسمية، خصوصًا في المناطق التي كانت تعاني ضعف الوصول إلى الخدمات المصرفية. كما يتيح المشروع للبنوك العمل وفق أنظمة تحقق فوري للهوية، ما يقلل من احتمالات الاحتيال ويعزز الامتثال لمعايير مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. وهي خطوات ضرورية لترسيخ الثقة بين المتعاملين والمنظومة المالية، وجذب مزيد من الاستثمارات المحلية والأجنبية.
ولا تقتصر أهمية الهوية الرقمية على بعدها التكنولوجي، بل تمتد إلى كونها عنصرًا داعمًا لسياسات الاستدامة والتحول الأخضر، من خلال تقليل الاعتماد على الورق وخفض الانبعاثات الناتجة عن العمليات التقليدية. كما تسهم في تسريع التحول نحو الاقتصاد غير النقدي الذي يستهدفه البنك المركزي ضمن خطته الاستراتيجية 2025، بما يتسق مع توجهات الدولة لبناء جمهورية رقمية قائمة على الكفاءة والشفافية.
إن تطبيق الهوية الرقمية يمثل انتقالًا نوعيًا من مفهوم «الخدمة البنكية» إلى مفهوم «المنظومة المصرفية المتكاملة» التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات لتقديم حلول مالية أكثر دقة وعدالة. فالمستقبل المصرفي لم يعد مرهونًا بعدد الفروع أو حجم الأصول فقط، بل بقدرة المؤسسات على إدارة الهوية الرقمية لعملائها بكفاءة، وتوظيف التكنولوجيا لتقديم تجربة مصرفية مرنة وآمنة.
لقد استطاع البنك المركزي المصري أن يضع مصر في مقدمة الدول العربية والأفريقية التي تتبنى بنية تحتية رقمية للهوية، تمهد لإطلاق جيل جديد من الخدمات المصرفية الذكية. كما أن هذا المشروع يعزز من موقع مصر في مؤشرات التنافسية الرقمية العالمية، ويفتح آفاقًا جديدة أمام الشركات الناشئة في قطاع التكنولوجيا المالية لتقديم حلول مبتكرة قائمة على التكامل بين البيانات والذكاء الاصطناعي.
وتُعد الهوية الرقمية ركيزة أساسية لخفض تكاليف العمليات المصرفية وتحسين كفاءة الخدمات الحكومية المتصلة بالقطاع المالي، إلى جانب دورها في دعم جهود الدولة لمكافحة الاقتصاد غير الرسمي وتعزيز الرقابة المالية، بما يسهم في استقرار السوق وتوسيع قاعدة المتعاملين بالنظام المصرفي.
إن الهوية الرقمية ليست مجرد مشروع تكنولوجي، بل هي تحول اقتصادي شامل يعيد تعريف مفهوم الثقة في القطاع المالي. وهي خطوة تؤكد أن البنك المركزي المصري لا يواكب المستقبل فحسب، بل يصنعه، من خلال استثمار واعٍ في التكنولوجيا يضع المواطن في قلب منظومة التنمية. وبينما يتقدم العالم نحو التحول الرقمي بوتيرة متسارعة، تبدو مصر اليوم في موقع الريادة الإقليمية بفضل هذه الرؤية الاستراتيجية التي تمزج بين الابتكار والمسؤولية، لتبني اقتصادًا قائمًا على المعرفة والثقة والشفافية.