بقلم/ د.زكريا صلاح الجندي، الخبير المصرفى
مع دق طبول الحرب والدخول فيها تتغير مصائر الشعوب حيث لا صوت يعلو فوق صوت الحرب، الا ان الدوافع السياسية للحروب يدفع ثمنها إقتصاد الدولة خاصة إذا كانت ضد رغبة تحالفات دولية وهو ما يحدث الان حيث وقوف معسكر الولايات المتحدة الامريكية ومعسكر الدول الاوربية وبعض الدول الأخرى في مواجهة روسيا نتيجة حربها على أوكرانيا محاولة منهم لإثنائها من خلال استخدام سلاح العقوبات الاقتصادية عليها لإنهاء الحرب وعدم الاستمرار فيها.
تعرضت روسيا خلال الأيام الماضية الى مجموعة من العقوبات الاقتصادية التي أثرت سلبا على إقتصادياتها نتيجة الدخول في حرب مع أوكرانيا بدافع حماية النواحى الأمنية للبلاد، وقد تمثلت بعضها في حظر تعاملات اكبر البنوك الروسية وعدد من المؤسسات المالية والشركات التابعة لها وحرمانها من التعامل على الدولار الامريكى وتجميد أصول هذه المؤسسات حيث تلعب هذه المؤسسات المالية دورا مهما في الاقتصاد الروسي.
وكذلك منع روسيا من التعامل بالدولار خاصة وان معظم مبيعات النفط والغاز تتم بالدولار الامريكى، بالاضافة الى منع تصدير التكنولوجيا لها، إضافة الى التهديد بمنع استخدام المؤسسات المالية الروسية لشبكة “السويفت” التي تلعب دوراً هاماً في التجارة الدولية وسداد المدفوعات ويربط ما يزيد على 11 الف بنك ومؤسسة في أكثر من 200 دولة ويرسل نظام السويفت اكثر من 40 مليون رسالة يومية بحجم تداول تصل الى تريليونات الدولارات.
وقد أتت العقوبات الاقتصادية بنتائجها على الاقتصاد الروسي بصورة سريعة جدا على عكس ما كان متصورا ظنا بأن الروس قد قاموا بإعداد السيناريوهات المختلفة لأثار الحرب من الناحية الاقتصادية وتوقعاتها والاستعداد الكامل لها حفاظاً على مؤسساتها المالية واستقرار سوق الصرف.
وقد أعلن البنك المركزى الروسى فى 28 فبراير 2022 عن سلسلة من الإجراءات كان أبرزها رفع سعر الفائدة على العملة المحلية من 9.5% الى 20% مرة واحدة وتفعيل الاداة الهامة للسياسة النقدية وهى سعر العائد وزيادته بصورة كبيرة لتحقيق هدفين اساسين الاول هو الدفاع عن العملة الوطنية ومحاولة السيطرة على إنخفاض قيمتها والتي انخفضت بما يزيد عن 40% خلال الأيام القليلة الماضية منذ اندلاع الحرب وفرض العقوبات بالإضافة الى تحقيق الهدف الثانى وهو مواجهة التضخم الذى سيسهم فيه خفض العملة بصورة كبيرة بمحاولة أن يكون سعر العائد الحقيقى موجباً والذى يمثل الفرق بين سعر العائد الاسمى مطروحا منه معدل التضخم وذلك للحفاظ على القوة الشرائية للعملة في ظل ارتفاع الأسعار نتيجة الانخفاضات المتتالية لسعر الصرف.
وقد حدت القيود المفروضة على استخدام احتياطي الذهب والعملات الأجنبية بالدولار الامريكى واليورو من تدخل البنك المركزى الروسي بصورة كبيرة في سوق الصرف للدفاع عن العملة.
ومن اجل تخفيف الضغط على الموارد من النقد الاجنبى تم الزام الشركات المصدرة بالتنازل عن 80% من حصائل الصادرات لزيادة جانب العرض من العملات الأجنبية تلبية لاحتياجات الاستيراد والافراد وتم فرض قيود على مبيعات الأوراق المالية من قبل غير المقيمين، وقد خفف البنك المركزى الروسي من إجراءاته والحدود الرقابية على البنوك لمواجهة الظروف التي يمر بها الاقتصاد من خلال عدم زيادة المخصصات والافراج عن الاحتياطيات التراكمية لجميع أنواع القروض بما فيها القروض بالعملات الأجنبية للشركات والقروض الشخصية بما يتيح قدر كبير من السيولة للبنوك تقدر بحوالي 900 مليار روبل بالإضافة الى السماح للبنوك بتقديم الدعم لعملائها وتلبية احتياجاتها وإعادة جدولة الديون دون غرامات تأخير مع عدم تخفيض تقييم العملاء.
ونظراً لتأثر السيولة نتيجة زيادة الطلب على النقد اتخذ البنك المركزى الروسي قرار باستمرار التعامل بالروبل النقدى وغير النقدى وأعطى البنوك الضمانات الكافية لزيادة كمية السيولة.
وتوالت التأثيرات الاقتصادية حيث قامت مؤسسة استاندرد اند بورز بتخفيض التصنيف الائتمانى لروسيا من تصنيف درجات الاستثمار BBB- الى تصنيف درجة المضاربة BB+ كما حظرت كل من شركة فيزا وشركة ماستر كارد التعامل مع عدد من المؤسسات المالية الروسية، كما اعلن البنك المركزى الاوروبى أن سبيربنك الروسى بما في ذلك فرعية النمساوى والكرواتى يعانى من شح السيولة وعلى شفا الانهيار نتيجة سحب الودائع وتدفقات الودائع الكبيرة منه الى الخارج وتراجعت أسهمه المدرجة في لندن بنسبة 70% كما انخفض سهم عملاق الغاز شركة غازبروم بنسبة 37% في تعاملات لندن.
وليس من شك ان فرض العقوبات الاقتصادية على روسيا سوف يكون لها بعض الاثار على اقتصاديات من يقومون بتقرير العقوبات انفسهم وعلى دول العالم ومعدلات النمو الاقتصادى المستهدفة حيث ارتفاع أسعار الطاقة وتأخر الامدادات الخاصة بالمواد الخام والسلع الأساسية كالقمح حيث توفر أوكرانيا ثلث كمية القمح التي يحتاجها العالم كما أن استمرار الحرب وعدم انهائها في غضون أيام قد يؤدى الى تفاقم الأوضاع الاقتصادية لدول العالم والانزلاق في أزمات سياسية اكبر على الرغم من محاولة إيجاد البدائل والتعامل مع الوضع الذى تفرضه ظروف الحرب والعقوبات الاقتصادية ورد روسيا نفسها على هذه العقوبات.