تبدو تعديلات مبادرة دعم القطاع السياحي التي أقرّها مجلس الوزراء وأعلن تفاصيلها البنك المركزي المصري، للوهلة الأولى، مجرد توسّع في برنامج تمويلي قائم. لكن ما يحدث فعليًا يتجاوز هذا الإطار الضيق بكثير. فالدولة — في لحظة اقتصادية دقيقة — تعيد رسم علاقة جديدة بين التمويل المصرفي والتنمية، وتمنح القطاع السياحي ليس فقط دفعة مالية، بل رافعة استراتيجية تعيد وضعه في قلب النمو الاقتصادي المستدام.
رفع الحد الأقصى للتمويل إلى 50 مليار جنيه وتمديد فترة السحب والتشغيل إلى 28 شهرًا بدلًا من 18 مع منح مهلة إضافية حتى نهاية 2027 للحصول على تراخيص التشغيل، جميعها إجراءات تبدو تقنية، لكنها في حقيقتها استجابة واقعية لأزمات التكلفة وتباطؤ التدفقات السياحية عالميًا.
هذه الخطوات — من وجهة نظري — تعكس إدراكًا حكوميًا بأن الاستثمار السياحي يحتاج لمرونة أكبر كي لا تتحول التطورات العالمية إلى حجر عثرة أمام المشاريع القادرة على خلق قيمة اقتصادية عالية. فالقطاع اليوم يتعامل مع تضخم عالمي في أسعار الإنشاءات والخدمات، ولا يمكن تمويله بأدوات جامدة لا تراعي هذه التحولات.
التعديلات الجديدة ليست ضخ أموال في فندق أو منتجع، بل تنشيط لسلاسل إنتاج كاملة. فكل جنيه يدخل مشروعًا سياحيًا، يتسرب بشكل مباشر إلى قطاعات المقاولات، ومواد البناء، والطاقة، والنقل، ومئات الموردين الآخرين. نحن هنا أمام مضاعف اقتصادي حقيقي، لا أمام مبادرة تمويلية تقليدية.
والأهم، أن هذه المبادرة — في حال تطبيقها بكفاءة — ستدعم ميزان المدفوعات وتزيد من الاحتياطي النقدي عبر رفع إيرادات السياحة الوافدة، أحد أهم مصادر النقد الأجنبي لمصر.
ويجب الاعتراف بأن وجود برامج داعمة بهذا الحجم، في قطاع حيوي وذي قدرة عالية على توليد العملة الصعبة، من شأنه تحسين النظرة الائتمانية لمصر، لأنها تؤكد على تنويع مصادر النمو وتقليل الضغط على الموازنة العامة.
من أهم ما يلفت النظر في هذه التعديلات هو إحياء الدور التنموي للقطاع المصرفي، من خلال تمويل الأنشطة الإنتاجية والخدمية ذات العوائد التشغيلية المستدامة. فالفائدة المخفضة ليست فقط دعمًا للقطاع السياحي، بل ترجمة عملية لاستراتيجية النمو الاحتوائي التي تجمع بين دعم القطاعات كثيفة العمالة وبين الحفاظ على سلامة القطاع المصرفي وربحيته.
كما أن الإشراف المشترك بين وزارة المالية والبنك المركزي يشير إلى مرحلة جديدة من تناغم السياسة النقدية والمالية، وهي خطوة أساسية في أي اقتصاد يسعى للاستقرار وسط بيئة عالمية مضطربة.
بصراحة، هذه المبادرة لا يمكن فصلها عن رؤية مصر 2030 التي تستهدف تحويل القطاعات الخدمية إلى محركات حقيقية للنمو. فالقطاع السياحي لن يحقق اختراقًا جديدًا إلا إذا تم توجيه التمويل نحو:
من هنا، تبدو المبادرة خطوة ناضجة في مسار التحول من التدخل الحكومي المباشر إلى تمكين القطاع الخاص عبر أدوات السوق، وهي فلسفة اقتصادية تعزز الثقة لدى المستثمرين المحليين والأجانب في مرونة النظام المالي المصري وقدرته على إدارة التحديات.
هذه التعديلات ليست قرارًا إداريًا، وإنما رسالة اقتصادية واضحة: مصر تمضي في تمكين القطاعات ذات العائد المستدام، وتعمل على تحويل السياحة إلى رافعة رئيسية للنمو، وجذب الاستثمار، وتوليد فرص العمل، ودعم الاحتياطي النقدي.
إنها ليست مبادرة تمويلية فحسب، بل سياسة اقتصادية متكاملة تعكس قدرة الدولة على استخدام أدوات التحفيز المالي دون إثقال كاهل الاقتصاد بضغوط تضخمية، ودون العودة إلى سياسات الدعم الشامل غير المستهدف.
إنها خطوة في اتجاه اقتصاد أكثر توازنًا، وأكثر شمولًا، وأكثر قدرة على المنافسة في عالم شديد التقلب.