ريم عادل السرجاني
كيف تُبنَى مجتمعاتُ الكلمات؟
كيف يصبحُ الإنسانُ كلمة؟
لماذا نقول للنص الجميل إنه حَقَّقَ “الصدق الفني”؟
الكلماتُ مجتمعاتٌ تَصدقُ وتَكذبُ، تؤدي الأمانات وتخونُ العهود. والنصوص مدن وجمهوريات تحفظ كرامة سُكّانها وتُحرر معانيها الجميلة أو تطغى على ميزان عدالتها النصية وتسجن الكلمات في سياقات ركيكة رتيبة تَئدُ جوهرَها..
للكلمات طاقات وأنوار وألوان وموسيقى وألحان ومواهب. وبينها صلات وعلاقات واشتقاقات. وتتخلّقُ من رحم / جذر / أصل مثل الإنسان. وتنمو من نطفة صوتية بكّاءة صارخة بالوجود إلى عَلَقة دلالية أوّلية إلى مضغة أكثر تطورًا ثم تخرج من (المعجم الأصغر/ الرحم الأول) إلى مجتمعات النصوص الأكبر لينفخ فيها المبدع فتُبَثُّ حياةً في النص. وتسعى بمقاصد ومعاني وتكتسب الاتساق من قدرتها على التآخي والتراتق مع شركائها في الوجود الفني. وتؤدي دورها التمثيلي في النص بأعلى طاقاتها على الأداء. وتكون الكلمة هي الأبقى والأعمق أثرًا كلما كانت الأصدق فنًا وحريةً في التجلي والتعبير. كما تتوطّدُ أواصرُها النَصيّة كلما ارتَقتْ درجاتُ إحسانها الفني وفتحتْ آفاقَ المعاني وشكّلت صورًا بلاغية صافية رَقراقة دفّاقة تَهدي قلبًا وتُنير عقلًا وتَعلقُ بذاكرةٍ أبدًا..
وهل جزاءُ الإحسان إلا الإحسان؟
والله خَلقَ لنا إعجازًا قرآنيًا من كلمة لها دستور حياة كامل ومجتمع قيمي دلالي تتعايش فيه الكلمات، لنتأمل قدراتها على التجاور والتوازي والتحاور وفنون التعايش والتثاقف في قلب النص. ولنحاول أن نستخرج الصور الجمالية التي تربط إبداع الله الكوني بإبداعه القرآني. وكيف نحيا في كلمة القرآن وبها ومعها ونفسر بها الكون ونفسرها بالكون أيضًا وحقائقه العلمية. كما أن هذه الكلمات بعضُها يحملُ القانونَ المباشر وبعضها أكثر غَورًا وعمقًا ويحملُ مساحة للتفسير والتفقُّه والتشاور الدلالي والتطور الحيوي والنمو التأويلي بانتقال النص القرآني الحضاري إلى سياقات زمنية مغايرة.
وخلقَ الله الإنسانَ ومنَحَه درجات من القدرة على الخلق تتفاوت من فرد لآخر. لكي يُحاكي الإنسانُ ربَّه في صور الخلق في حدود سعته البشرية. فكلُ السبل من مادة وروح، وكون خارجي وكلمة مجازية تقود للخالق الواحد. وعلينا إبراز الخيوط المستترة النائمة بين هذه المخلوقات؛ الإنسان وكلمة الإبداع وكلمة الله والوجود الكوني. وبذلك ندخل في لعبة رتق الخيوط بانسجام الإلهام الذي يفتح به الله علينا لأن “السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ۖ” وإذا لم نُحسن الرتقَ فلننقضَ غزلنا ونعيد الكرّة مرة بعد مرة.. أليست الحياة مجموعة محاولات للعودة للأصل الروحي الذي هبطنا الأرض بحثًا عنه؟ والله هدانا السبيل مثلما هَدَى الكلمات معاني الهُدى. وأراد الله للكلمات أن تكون أمثالا جمالية هادية؛ تحيا وتهرم وتتواصل وتبني جسورًا ومدنًا وقارات دلالية، وتتكلم ليتعلم الإنسان من أرض المجاز كيف يبني مجتمعًا حضاريًا مثلما تعلم من أرض الكون كيف يواري الغرابُ سوأة أخيه.
ألا يقول ذلك بضرورة الترابط بين العالم الفني والعالم الكوني الإنساني وانفتاح النص على الحياة؟
ألا يجعل ذلك الإنسان والكلمة في رباط؟ أي أنهما بينهما رَحم خَلق متشابه، وأطوار نمو متماثلة تنشأ في كنف المودة والرحمة؟ والرَحِم صِيغَ لفظيًا من جذر الرحمة وعلميًا وتشريحيًا من وعاء شديد الرأفة بالكائن المتنامي في نسيجه. فالحقيقة العلمية المادية التقت بالوصل والرتق مع الحقيقة الفنية المجازية.
ألا يجعل ذلك البلاغة تقوم على لفظ رحيم صلةً بأرحامها ووصلًا بجذورها وتأديةً لأمانتها؟ ألا يجعل ذلك القانون البلاغي يحفظ للكلمة حياة طيبة في سعيها النصي بجمهورية المجاز الفني الذي تسكنه؟ ألا يجعل هذا البلاغة قولًا قلبيًا صَدَّقَه عملٌ وليس قناعًا شكليًا مكذوبًا بلا مرجع؟ ألا يحفظ هذا حق الكلمة في التصويت والتأثير النصي وتحويل مساره الدلالي؟ ألا يُقر ذلك بحقها الفني في انتخاب الحاكم النقدي الذي يُنظّم علاقاتها الدلالية مع أخواتها ومقاصدهم الجمالية الصادقة التي يتهامسون بها في أفضية النص؟ ألا يحوِّل ذلك النصَّ إلى التقاءٍ- روحًا برُوح- بين الكلمة والمبدع يتراتقان ويتناسخان، فيكون الإنسانُ كلمة؟ أليس عيسى عليه السلام كلمة الله؟
ألا يجعل هذا علاقة اللفظ بمعناه قائمة على المشورة النقدية وقدرة الكلمة على محاورة ذاتها ومشاورة مَلَكَاتها ومحاورة أقرانها بالتشاور والتواصل لا بالانقطاع والانقسام والتشظي إلى جزيئات بلا أصل؟
الكلمة كالإنسان تحتاج لأن تحيا حياة طيبة في مدن ودول لها تخطيط عمراني واستراتيجيات حضارية بدستور وجود مرن متطور يحفظ لها كرامتها ويُثقفها بواجباتها الجمالية في سعيها النصي ويُطهّر نواياها المعنوية من الخَبَث ويُزكّي تقواها ويُمهد لها سبل التطور واكتساب الخبرة والتنوُّر من سياق لسياق..
حينها لا يَتَشظَّى الإنسانُ بين الكلمة ومعناها، بين سَعيه ونواياه بل يصبحُ الخليفة الإنسان الكُل (غير المُجتَزَأ) الذي تتصالحُ جزيئاتُه ومقاصدُه ومعانيه مع كلماته وسلوكه وأساليبه..
حينها يعرف الإنسانُ أن يفتح مدن المعاني ويحرر الكلمات من سجون الزيف والتمويه..
حينها تتصالح مضغته القلبية مع عقله فيعقل القلب ويلين العقل عطفًا وتتوازن إنسانيته وتتآلف مكوناته.. حينها يكون الله من وراء القصد..
حينها تكون كلمتُه مرايا للخلق من جذور الروح لفروع المادة..
حينها يُصبحُ الإنسانُ كلمة