قراءة تحليلية في القرار ودلالاته على التضخم والنمو والاستثمار
في خطوة تعكس تحوّلًا مدروسًا في السياسة النقدية، قررت لجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي المصري خفض أسعار العائد الأساسية بواقع 100 نقطة أساس، ليصل سعر عائد الإيداع لليلة واحدة إلى 20%، وسعر الإقراض إلى 21%، وسعر العملية الرئيسية وسعر الائتمان والخصم إلى 20.5%.
ويأتي القرار في توقيت بالغ الأهمية، بعد مرحلة طويلة من التشديد النقدي، ويعكس ثقة متزايدة في مسار انحسار الضغوط التضخمية وقدرة الاقتصاد المصري على استيعاب تخفيف تدريجي للقيود النقدية دون الإخلال باستقرار الأسعار.
أولًا: تراجع التضخم.. العامل الحاسم في القرار
يُعد الانخفاض الواضح في معدلات التضخم المحرك الرئيسي وراء قرار الخفض فقد استأنف التضخم السنوي العام مساره النزولي ليسجل 12.3% في نوفمبر 2025، مدفوعًا بتراجع حاد في تضخم أسعار الغذاء إلى 0.7%، وهو أدنى مستوى له منذ أكثر من أربع سنوات.
كما سجل التضخم الأساسي 12.5%، مع تراجع ملحوظ في الزيادات الشهرية للأسعار، حيث جاءت أقل من متوسطاتها التاريخية الموسمية، ما يعكس تحسنًا في توقعات التضخم وتلاشيًا تدريجيًا لتأثير الصدمات السابقة، سواء المرتبطة بسلاسل الإمداد أو بتقلبات أسعار السلع.
ويرى خبراء اقتصاديون أن هذه المؤشرات منحت البنك المركزي مساحة آمنة نسبيًا لبدء التيسير النقدي، دون المخاطرة بعودة موجات تضخمية جديدة.
ثانيًا: دعم مسار النمو دون الإضرار بالاستقرار النقدي
على صعيد النمو الاقتصادي، تشير تقديرات البنك المركزي إلى تباطؤ طفيف في النمو خلال الربع الأخير من 2025 ليقترب من 5% مقابل 5.3% في الربع السابق، وهو تباطؤ يُعد صحيًا في سياق إعادة التوازن الاقتصادي.
ويُظهر هيكل النمو استمرار مساهمة القطاعات الإنتاجية غير البترولية، مثل الصناعة التحويلية والتجارة والاتصالات، ما يعزز من قدرة الاقتصاد على النمو المستدام بعيدًا عن الضغوط السعرية.
خفض أسعار الفائدة في هذا التوقيت يهدف إلى، تقليل تكلفة التمويل على الشركات، تحفيز الاستثمار الخاص، دعم النشاط الإنتاجي والحفاظ على زخم النمو دون توليد طلب تضخمي مفرط
ثالثًا: تراجع الضغوط العالمية يمنح هامش حركة
على المستوى العالمي، ورغم استمرار حالة عدم اليقين المرتبطة بالتوترات الجيوسياسية والتجارة الدولية، فإن اتجاه البنوك المركزية العالمية يميل نحو التيسير الحذر، مع استقرار نسبي في معدلات التضخم العالمية.
كما شهدت أسعار النفط تراجعًا نسبيًا نتيجة زيادة المعروض، وهو ما خفّف من الضغوط التضخمية المستوردة، رغم بقاء بعض المخاطر المرتبطة بسلاسل الإمداد العالمية.
ويؤكد محللون أن هذا المناخ الخارجي الأقل توترًا نسبيًا منح البنك المركزي المصري فرصة لاتخاذ قرار الخفض دون التعرض لضغوط كبيرة على سعر الصرف أو تدفقات رؤوس الأموال.
خبراء مصرفيون: القرار يعكس نضج السياسة النقدية
يرى خبراء مصرفيون أن خفض الفائدة بواقع 100 نقطة أساس لا يمثل تحولًا جذريًا مفاجئًا، بل هو بداية مدروسة لدورة تيسير نقدي تدريجية، تتماشى مع تحسن مؤشرات التضخم واستقرار التوقعات.
ويشير هؤلاء إلى أن المركزي حرص على الإبقاء على فائدة حقيقية موجبة، عدم تقديم إشارات تيسير مفرط للأسواق، ربط أي خطوات لاحقة بتطور البيانات الاقتصادية
ويؤكد محللون اقتصاديون أن القرار يحمل رسالة واضحة للأسواق مفادها أن مرحلة كبح التضخم الحاد انتهت، وأن التركيز انتقل إلى دعم الاستثمار والنشاط الاقتصادي، خاصة في القطاعات الإنتاجية، دون العودة إلى سياسات نقدية توسعية غير منضبطة.
كما يرون أن الخفض يخفف أعباء خدمة الدين على الشركات، يعزز شهية القطاع الخاص للاقتراض ويدعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة
خبراء أسواق المال: أثر إيجابي على البورصة والتمويل
من منظور أسواق المال، يتوقع خبراء أن ينعكس القرار إيجابيًا على، أداء البورصة المصرية، تكلفة التمويل للشركات المقيدة، توجه المستثمرين نحو أدوات الاستثمار الإنتاجية بدلًا من الادخارية قصيرة الأجل
رابعًا: لماذا 100 نقطة أساس وليس أكثر؟
يؤكد مراقبون أن اختيار 100 نقطة أساس يعكس حرص المركزي على تحقيق توازن دقيق بين دعم النمو، الحفاظ على مسار خفض التضخم، تجنب صدمات مفاجئة للأسواق، فالتضخم، رغم تراجعه، لا يزال أعلى من مستهدف البنك المركزي البالغ 7% ±2%، والمتوقع الوصول إليه بنهاية الربع الأخير من 2026، ما يستدعي استمرار الحذر في وتيرة الخفض.
سياسة نقدية مرنة ومشروطة بالبيانات
يعكس قرار خفض أسعار الفائدة انتقال البنك المركزي المصري من مرحلة التشديد الدفاعي إلى التيسير المحسوب، في ضوء تحسن مؤشرات التضخم واستقرار التوقعات الاقتصادية.
وتبقى الرسالة الأهم في بيان لجنة السياسة النقدية أن المسار المستقبلي للفائدة سيظل معتمدًا على البيانات، مع استعداد كامل لتعديل السياسة النقدية صعودًا أو هبوطًا، بما يضمن تحقيق الهدف الأساسي للبنك المركزي المتمثل في استقرار الأسعار ودعم نمو اقتصادي مستدام.