بقلم دكتور محمود محيي الدين: رائد المناخ للرئاسة المصرية لمؤتمر الأطراف لاتفاقية الأمم المتحدة للتغير المناخي COP27 والمبعوث الخاص للأمم المتحدة المعنى بتمويل أجندة 2030 للتنمية المستدامة
تكررت الإشارة للاستثمارات الذكية الخضراء في برامج الإصلاح الاقتصادي وكذلك في جهود التصدي لتداعيات الجائحة الصحية والسعي لاستعادة وتيرة التنمية والتقدم سواء في دول متقدمة أو في البلدان النامية والأسواق الناشئة. ويقصد بالاستثمارات الذكية الخضراء تلك التي تتبنى التحول الرقمي وتحقيق أهداف الاستدامة وفي هذا الشأن اعتباران:
الاعتبار الأول: يتعلق بالمكون الذكي لبرامج النمو والتنمية بما يتطلب الاستثمار في نظم البيانات وشبكات المعلومات وأمنها، كما يستدعي تطوير رأس المال البشري تعليما وتدريبا، خاصة في المجالات المستجدة المرتبطة بما يعرف بالثورة الصناعية الرابعة، بما في ذلك استخدامات الذكاء الاصطناعي والتعامل مع قواعد البيانات الكبرى.
الاعتبار الثاني: يتعلق بنهج الاستدامة، فبالرغم من خطورة تغير المُناخ فإن من الخطأ البالغ أن تختزل قضية الاستدامة فيها وحدها دون غيرها، أو أن يتم تحبيذ إجراءات بعينها ظنًا بأنها وحدها القادرة على التعامل مع تدهور أوضاع المناخ وتدني نوعية الحياة على الأرض. فقد جعل التوافق الدولي الذي تم في عام 2015 بالإعلان عن أهداف التنمية المستدامة، التصدي لتغير المُناخ من ضمن أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر، ويشكل هذا الهدف ورقمه 13 مع الهدف 14 عن الحياة تحت الماء، والهدف 15 عن الحياة في البر مجموعة متكاملة للأبعاد البيئية والحفاظ على تنوعها والعمل المناخي بمقتضى التزامات اتفاق باريس للمناخ 2015.
ولكن ما جرى من اختزال للاستدامة في هدف واحد مع افتراض أن مقتضاه أن الاستثمار في التصدي لتغير المناخ ستصاحبه منافع مشتركة بما يحقق التنمية المنشودة يهدد بترسيخ التنافر بإيجاد مسلكين متباعدين: مسلك سريع توجه إليه الاستثمارات وسبل التمويل وترتاده دول متقدمة من أنصار المفهوم الضيق للاستدامة بقصرها على ما يتعلق بتغير المُناخ، ومسلك بطيء شحيح الموارد تصارع فيه الدول النامية ترتيب أولوياتها لتحقيق باقي أهداف التنمية المستدامة، والتي لن تتحقق تلقائيًا بفضلات المنافع المشتركة الموعودة لاستثمارات العمل المناخي.
وقد سنحت الفرصة للبلدان النامية في شرم الشيخ لاستعراض هذا المنهج الشامل للاستدامة وتحديد متطلبات نجاحه، وعزز من ذلك اختيار الرئاسة المصرية لمؤتمر أطراف اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المُناخ (COP27) شعار “معًا من أجل التنفيذ” لعقد المؤتمر، وهو ما عكس وجود قناعة بحتمية المضي قدمًا على نحو سريع وفي إطار منهجية شاملة نحو التنفيذ العملي للالتزامات والتعهدات ذات الصلة بالتصدي لأزمة تغير المُناخ. وقد حرصت مصر في إطار جهودها لرئاسة واستضافة مؤتمر (COP27) وكذا في إطار جهودها الرامية إلى تنفيذ رؤية مصر 2030 والاستراتيجية الوطنية لتغير المُناخ 2050، على تقديم نموذج تطبيقي رائد في مجال التنمية المستدامة والتحول الرقمي والتعامل مع آثار التغير المُناخي. فلقد قامت اللجنة العليا المعنية بالتحضير لاستضافة مصر لمؤتمر (COP27) برئاسة السيد رئيس مجلس الوزراء في 23 يونيو 2022 بإطلاق المبادرة الوطنية للمشروعات الخضراء الذكية بمحافظات الجمهورية. وتؤكد هذه المبادرة على جدية الدولة المصرية في التعامل مع البعد البيئي والتحول الرقمي في إطار جهودها لتحقيق أهداف التنمية المستدامة من خلال وضع خريطة على مستوى المحافظات للمشروعات الخضراء الذكية وربطها بجهات التمويل وجذب الاستثمارات اللازمة لها.
وتقوم المبادرة على إيجاد إطار تنافسي بين كافة محافظات الجمهورية لتقديم مشروعات خضراء ذكية في سياق مسابقة وطنية سنوية، وتنقسم تلك المشروعات إلى الفئات الست التالية المشروعات كبيرة الحجم، والمشروعات المتوسطة والمشروعات الصغيرة (خاصة المرتبطة بمبادرة حياة كريمة والمشروعات المقدمة من الشركات الناشئة والمشروعات التنموية المتعلقة بالمرأة وتغير المناخ والاستدامة والمبادرات والمشاركات المجتمعية غير الهادفة للربح. وقد قدم في خلال فترة وجيزة منذ تفعيل المبادرة 6281 مشروعًا من كافة المحافظات في مختلف الفئات الست المشار إليها من خلال منصة إلكترونية موحدة تم إنشاؤها خصوصًا للمبادرة.
وأعلنت اللجان التنفيذية للمبادرة بكافة المحافظات برئاسة السادة المحافظين عن 162 مشروعًا تم اختيارها للتصفية النهائية، ثم قامت لجنة تحكيم وطنية برئاسة رائد المناخ للرئاسة المصرية لمؤتمر (COP27) والمبعوث الخاص للأمم المتحدة المعني بتمويل أجندة 2030 للتنمية المستدامة، والتي تضم خبرات فنية متخصصة، بالإعلان عن 18 مشروعًا فائزًا على مستوى الجمهورية بواقع ثلاثة مشروعات من كل فئة من الفئات الست فضلًا عن مشروع ممثل للمحافظة يتم اختياره وفقًا لمعايير وأولويات محددة من قبل السيد المحافظ. وأعقب هذه الخطوات عقد مؤتمر وطني في شهر نوفمبر 2022 تحت رعاية السيد رئيس الجمهورية وبحضور السيد رئيس مجلس الوزراء والوزراء المعنيين وممثلي الوزارات المختصة بما في ذلك وزارات التخطيط والتنمية الاقتصادية والتنمية المحلية والبيئة والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات لعرض المشروعات الفائزة بحضور ممثلي جهات وطنية ودولية مختلفة. ثم تم عرض تلك المشروعات خلال مؤتمر (COP27) بتنسيق مع وزارة الخارجية ورئاسة المؤتمر بحضور متميز من المؤسسات الدولية والقطاع الخاص والبنوك والجامعات ومراكز البحث ومنظمات المجتمع المدني.
وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن استطلاع رأي أجراه المركز المصري لبحوث الرأي العام (بصيرة) لقياس مدى معرفة المصريين بقضايا تغير المُناخ أجري قبل قمة شرم الشيخ في شهري أغسطس وأكتوبر 2022 قد أوضح أن 69% من المصريين لم يسمعوا عن تعبير ” التغير المناخي من قبل. فبجانب ما تقدمه مبادرة المشروعات الخضراء والذكية من حلول عملية تُسهم في توفير فرص العمل وزيادة الاستثمارات والنمو، فإن إجراءها بشكل سنوي سيسهم بشكل كبير في نشر الوعي للتصدي للآثار السلبية لتغير المُناخ، وتمكين كافة فئات المجتمع على المستويات المحلية بما في ذلك الشباب والمرأة للقيام بدور فعال في هذا الصدد. فالمبادرة تنطوي على تنظيم برامج تدريبية للتعريف بماهية الاستدامة وتغير المُناخ والتحول الرقمي وعلاقة ذلك بالمشروعات المنفذة في المحافظات.
وفي إطار الإعداد لعقد النسخة الثانية من المبادرة خلال عام 2023 يسير العمل للبناء على نجاح هذه المبادرة بالتعاون مع المؤسسات التنموية الدولية والبنوك والقطاع الخاص وحشد الجهود الوطنية اللازمة لتطوير المبادرة وزيادة التعريف بها وتقديم الدعم الفني للمتقدمين للمشروعات في إطارها، والعمل على حشد التمويل من مصادر مختلفة سواء لمساندة وتطوير المشروعات القائمة بالفعل أو للإسهام في بداية عمل مشروعات جديدة كنماذج متميزة لتوطين التنمية المستدامة.