الكاتب: عمرو الحداد
رئيس قطاع منتجات رأس المال بالشرق الاوسط، افريقيا، وشرق اوروبا بشركة كيريبا
يقول المثل الإنجليزي ان تأتي متأخرًا خير من الا تأتي مطلقاً، قد يكون هذا المثل صحيحاً فيما يتعلق بالكثير من الأعمال و لكن عندما يتعلق الامر بالرقمنة، فالنصيحة الاولي و الأهم هي ان تذهب لتطبقها الآن و ليس لاحقاً.
فلنبدأ اولاً بعنوان المقال و هو ليس كلمة واحدة مكررة بلا سبب بل هي اقرب ترجمة للكلمة الانجليزية Digitization بمعني تحويل Analogue Data إلي شكل مرقمن، و الرقمنة الثانية في عنوان المقال بمعني Digitalization، او استخدام منتج رقمي عادة ما يكون برنامج حاسوب او ما شابه، الارتباط بين نوعي الرقمنة واضح للغاية و انت بحاجة الي كليهما الآن، لماذا…كيف…؟ دعنا نكمل المقال و لنبدأ بالرقمنة الأولي او Digitization.
انه العام ١٧٠٠ ميلادية، و شخص ما يمتلك أراضي قرر ان يبيع المحصول لدولة اخري، تم جمع المحصول بنجاح و ذهب صديقنا الي الميناء لشحنه، و في الطريق و هو يمتطي حماره كان صديقنا يتحسس جيب جلبابه الداخلي كل برهة ليتأكد من وجود المستندات المطلوبة، خمن معي ما هي المستندات المطلوبة للشحن عام ١٧٠٠ ميلادية. نعم…إجابتك صحيحة. انها بوليصة شحن و فاتورة، تم شحن المحصول بنجاح، و في طريق العودة سقط صاحبنا في فجوة زمنية و استيقظ ليجد نفسه في عام ٢٠٢٢، زرع محصوله، و ذهب لشحنه و في الطريق بينما كان يتصفح الانترنت علي هاتفه المحمول، و يقرأ التنبيه القادم من تطبيق ثلاجة منزله بضرورة شراء بعض المثلجات، بينما كان يفعل ذلك و هو في عربته المكيفة كان يتحسس جيب بزته ليتأكد من وجود مستندات الشحن… بالظبط… بوليصة الشحن و الفاتورة، نفس المستندات و لكن تحت أسماء اخري! مر اكثر من ٤٠٠ عام ولم يتغير شيء في تفاصيل مستندات الشحن بينما تغير كل شيء آخر في الحياة.
بدأت صيحة الرقمنة منذ سنوات عديدة، كانت بمثابة سفسطة لم يقتنع بها معظم العاملين في مجالات التجارة العالمية، ضربة البداية جاءت من جيل جديد اعتاد استخدام المنتجات الرقمية و رأي – و هو محق – انه لم يعد من اللائق الاعتماد علي مستندات ورقية لإدارة تجارة عالمية تخطي حجمها تسعة تريليونات دولار، كان السؤال الاول هو: و ما فائدة الاستثمار المطلوب لرقمنة بوليصة الشحن و المستندات الأخري بمعني استخدام النسخة الكمبيوترية دون طباعة؟ و اجابت الأرقام: تبعاً لواحدة من احدث الدراسات لشركة ماكينزي: رقمنة بوليصة الشحن فقط سوف تؤدي إلي خفض تكاليف الشحن العالمية بمبلغ ٦.٥ مليار دولار، و سوف تزيد حجم التجارة العالمية بمبلغ ٤٠ مليار دولار بحلول عام ٢٠٣٠ و سوف تطلق حوالي ١٥.٥ مليار دولار اضافية في صناعة الشحن و الخدمات المتعلقه بها في مدة زمنية قصيرة، فهل هناك من لا يزال يعتقد بعدم جدوي الرقمنة عالمياً؟
في الحقيقة لا. تحولت السفسطة الي ضرورة عملية، و لكن هناك العديد من العراقيل التي يجب تخطيها من اجل الوصول للتطبيق الكامل لرقمنة مستندات الشحن، و بالتالي الاستفادة من كل المميزات. تبدو أكبر العراقيل هي تلك المتعلقة بالتشريعات، حيث لا تزال معظم تشريعات العالم تتمسك بوجود مستندات الشحن الورقية لأسباب عديدة منها ما يتعلق بالاعتقاد بسهولة تزوير مستندات الشحن الرقمية بشكل اكثر من نظيرتها الورقية، ثاني هذه التحديات هو هاجس الأمن السيبراني وهو هاجس قوي لدي البعض و لديه ما يبرره، يأتي هذا بينما تسرع بعض الدول لاحتضان التقنيات الرقمية الحديثة بغرض الاستفادة المادية و زيادة التنافسية. تأتي الامارات العربية المتحدة و سنغافورة علي رأس هذه الدول، و تليها دول اوروبية كفرنسا التي تعيد صياغة قوانينها المتعلقة بالتجارة، و بريطانيا التي يناقش برلمانها حالياً القوانين الرقمية الجديدة مع الإتفاق علي ان يتم التطبيق بنهاية النصف الاول من العام القادم. التحدي الثالث يتمحور حول غياب التطبيق الشامل لكل أطراف عملية التجارة من بائعين و مشترين و بنوك و شركات شحن و سلطات جمركية…الخ. و لكي نحصل علي التطبيق الصحيح و الكامل يجب ان يتم التطبيق علي جميع الاطراف، ليس هذا فحسب بل يجب ان يستخدم الجميع تطبيقات متناغمة تستطيع الاتصال ببعضها البعض و الا سنخلق عالم من جزر تكنولوجية متباعده، عدم الاقتناع لدي البعض و النقص في المعلومات تمثل تحديات اضافية ربما يسهل مواجهتها بالوقت و المطالعة و المزيد من المناقشات.
كيف تستجيب اطراف العملية التجارية لضرورة الرقمنة؟ اخترت لكم هنا طرفين. المصارف و الشركات، اما عن المصارف فحسب أحد إحصائيات الغرفة التجارية العالمية بين ٣٤٦ مصرف، أكد ٥٤٪ منهم ان الرقمنة تأتي علي قمة اولوياتهم العام القادم بدرجة مقبول فقط. تأتي الاخبار الجيدة من حقيقة ان٩٠ ٪ من التجارة العالمية تدار بواسطة الثلاثة عشر مصرف الأكبر المشمولة في الإحصاء و معظمها – معظم تلك النسبة من التجارة العالمية – تمر عبر البنوك الخمسة الكبري و كلها جاهزة تماماً لعالم الغد، و يرتفع التقدير من مقبول لجيد جداً مع الأخذ في الاعتبار اهمية البنوك الأصغر لتمويل التجارة العالمية و خصوصاً للشركات المتوسطة و الصغيرة، الشركات بشكل عام تظهر انفتاحاً اكبر لعملية التحول التكنولوجي بغض النظر اذا كانوا قادرين فعلاً علي استيعابها و تطبيقها، و من هنا، من جانب الشركات، دعنا نعبر الجسر لعملية الرقمنة الأخري Digitalization
المتابع لأحداث و نتائج المؤتمرات ذات الصلة موخراً يلاحظ الاهتمام الكبير بموضوعات مثل التضخم و الركود المتوقع و الأخطار الچيو-سياسية. مع ذلك تظهر لنا نظرة أعمق للمناقشات الجانبية في تلك المؤتمرات، ان ما يؤرق نوم المديرين الماليين بشكل رئيسي هو ثلاثة موضوعات: القدرة علي الرؤية الآنية للتدفقات المالية، رؤية آنية و ليست يومية او شهرية، محاولة تحقيق هذا الهدف بشكل تقليدي عبر جداول و تقارير منفصلة يتم تجميعها يدوياً هي عملية تستهلك الكثير من الوقت و تخضع للأخطاء البشرية، الأنظمة المالية التقليدية هي الأخري لا تستطيع توفيرإمكانية رؤية و تحليل التدفقات المالية في غياب الربط الإلكتروني الآني مع المصارف التي تدير تلك التدفقات، بمعني اوضح لا يمكن طمأنة المختص علي وضعه المالي بدون تحول رقمي كامل يتيح التحليل التفصيلي للوضع المالي باستخدام تكنولوجيا الربط و التحليل الحديثة، تأتي القدرة علي توقع شكل و حجم و توزيع التدفقات المالية في المستقبل كثاني تلك المطالب، و بأختصار بدون استخدام الذكاء الصناعي القادر علي تحليل انماط التدفقات وتقديمها للمختص، بجانب مقترحات تتعلق بأفضل فرص الاستثمار و أقل فوائد الإقتراض، يبدو تحقيق هذا المطلب في غاية الصعوبة بدون تحول رقمي كامل، أخيراً و ليس اخراً خاصة في ظل التضخم السائد هو الإدارة المثلي لرأس المال، و يتحقق هذا عبر شقين، الشق التجاري من خلال التفاوض مع الموردين و العملاء علي أنسب شروط الدفع، و الشق العملياتي من خلال إدارة عمليات الدفع و الفوترة و تمويل المدفوعات و حسابات القبض و هذا لا يمكن تحقيقه بكفاءة هو الآخر إلا باستخدام الأنظمة الرقمية المرتبطة بالمصارف. الخلاصة: قطاع الشركات ادرك اهمية الرقمنة و طبقها بالفعل او يسعي لتطبيقها و يبحث عن افضل مقدمي تلك الخدمات من شركات التكنولوچيا المالية و بعض المصارف. و بالحديث عن المصارف فالكثير منها قد أتم عملية التحول الرقمي بالفعل او في طريقه الي ذلك، و في خلال تلك الرحلة حظيت المصارف بإختيارين، اما تطوير انظمتها الرقمية الخاصة و كان هذا اختيار بعض المصارف التي تؤمن ان بإمكانها ضخ الملايين و ربما المليارات من الدولارات سنوياً في إدارة عمليات تكنولوچية معقدة لا تمتلك بالضرورة المعرفة التقنية (Know how) الكاملة بها، ربما ايضاً كانت طبيعة و حجم عملاء تلك المصارف وراء هذا الأختيار، و بالتأكيد حسابات المكسب و الخسارة، اما معظم المصارف فقد اتجهت للتعاون مع شركات التكنولوچيا المالية اما بشراء انظمتها، او بالشراكة معها، او بشرائها بشكل كامل و دمجها في عملية إدارة المدفوعات و التمويل التجاري.
لم يعد السؤال هو لماذا التحول الرقمي بل اصبح كيف يمكن اتمام ذلك التحول في اسرع وقت. اذا لم تكن قد بدأت…فأبدأ الآن.