وعندها صحت بالعامية المصرية قائلاً: يا جماعة دول بيقبضوا تمن البضاعة اللي بيبيعوها قبل ما يدفعوا تمن مكوناتها للموردين بتوعهم!
كان ذلك في أثناء حصة تدريبية لإحدى الشركات في منطقتنا العربية، و كنت أعطي مثالاً عن أهمية الإدارة الجيدة لدورة رأس المال و تدعيمه من خلال أفضل الحلول المالية، و لم أجد مثالاً لقوة تأثير دورة رأسالمال أفضل من شركة أبل “Apple” الأمريكية، و لغير المتخصصين دورة رأس المال هي الفترة الزمنية المطلوبة لتحويل مدفوعات أي شركة (Payables) إلى أرباح بعد تحصيل حسابات القبض (Collection of Receivables)، مروراً بالفترة اللازمة للتصنيع والتخزين ما بينهما.
وكما قد تكون قد خمنت بالفعل عزيزي القارئ فإنه كلما قصرت تلك الفترة كلما تسارعتدورة رأس المال وبالتالي حظيت الشركة بفرصة أفضل لتحقيق أرباح أكثر. بعضالصناعات تحتاج أكثر من ٦ شهور لتحويل مدفوعاتها إلي أرباح و البعض يحتاج أقل من٣٠ يوماً. أما بالنسبة لشركة أبل “Apple” فدورةرأسمالها بنهاية سبتمبر ٢٠٢١ كانت (٥٢،٩-) ،نعم سالب ٥٣ يوماً تقريباً هذا لم يكن خطأً مطبعياً.
”الآن أصبحت الجملة في بداية المقال أوضح“ قد يبدو إن إدارة رأس المال عملية سهلة، فالمطلوب بديهياً هو فقط تعجي لتحصيل المبيعات و علي الجانب الآخر التفاوض مع الموردين علي شروط أفضل عن طريق تأجيل الدفع بقدر الإمكان، مع إدارة جيدة و سريعة لعملية الإنتاج و المخازن، و لكن الواقع ليس بتلك البساطة.
إدارة رأس المال عملية معقدة نوعاً ما، و تتطلب التعاون بين العديد من الإدارات داخل الشركة الواحدة، كما إنها عملية محكومة بالكثير من الظروف الخارجية مثل الممارسات السائدة في الصناعة التابع لها الشركة، وحجم و أهمية المستورد بالنسبة للمورد ….الخ، و ليس من السهل تحقيق كل أهدافها في الظروف المالية الطبيعية فما بالك بالإمساك بتلك الدفة عبر أمواج عالية من التضخم أثناء حرب و بعد وباء عالمي لا زلنا نعاني تبعاته؟ و كيف يمكن التقليل من آثار التضخم، علي عمل الشركة عن طريق إدارة رأس المال و سلاسل الإمداد بطريقة مثالية؟ سنحاولاستعراض بعض تلك الوسائل فيما تبقى من هذا المقال.
مبتدئاً بالأساسيات: الأثر المباشر للتضخم هو انخفاض قيمة المال الذي تملكه مقارنة بالبضائع التي تشتريها. فإذا كنت تتوقع زيادة أسعار مدخلات صناعة ما فمن البديهيأن يكون القرار هو بناء مخزون جيد منتلك المدخلات لاستخدامها كدرع حماية ضد زيادة الأسعار، و هنا تبرز أهمية الحفاظ علي علاقة جيدة ومستدامة مع الموردين، و ربما منحهم بعض الميزات التي قد تتضمن إدخال الموردين المتعاونين ضمن آليات دفع مبكر عبر برامج تمويل سلاسل الإمداد (Supply Chain Finance Programs)، او بالدفع المباشر والحصول علي أسعار أقل مقابل ذلك.
والقرار هنا، سواء كان بمنح مميزات مقابل الدفع المبكر عن طريق برامج التمويل، أوالدفع بشكل مباشر، يكون مبنياً علي أساس المقارنة بين تكلفة التمويل و فوائدالاحتفاظ بالسيولة، مع ملاحظة ان واحد من آثار التضخم المباشرة هي زيادة سعرالفائدة علي الودائع.
و يظل التفاوض على شروط دفع أفضل للمشتري خياراً جيداً علي أي حال. هذا على جانب المدفوعات. أما علي جانب حسابات القبض (Receivables)،فبالإضافة إلى بعض الأساليب المعروفة كالتفاوض مع العملاء علي مدد دفع أقصر، وتشجيع العملاء مالياً علي الدفع المبكر، بجانب حلول بيع المستحقات ((Receivables Purchase Solutions، فهنا كوسيلة أخرى عملياتية قد لا تكون مرئية للبعض وهي تطوير عملية إصدار الفواتير عنطريق استخدام أفضل أنظمة فوترة العملاء، وبالتالي تحصيل الارباح في مواعيدها المحددة. في أوقات التضخم حيث تتزايد أهمية النقد تتزايد ايضاً أهمية التأكد من كفاءة العمليات و خاصة عمليات التحصيل والأنظمة المستخدمة فيها.
فماذا عن الحلول غير التقليدية؟ أسعارالاقتراض المرتفعة، بجانب صعوبة الاقتراض نفسها خلال فترات التضخم، تجعل من الحتميإدارة رأس المال بشكل إحترافي و الاحتفاظ بحجم السيولة الأمثل (الأمثلو ليس الكثير أو القليل).
و سواء كان التضخم،أو ما قد يتبعه من ركود، فالقدرة علي التنبؤ بل و التحكم في التدفقات النقدية ليسبرفاهية. فكيف يمكن الوصول لهذا الهدف علي الأخصبالنسبة للشركات الكبيرة ذات العلاقات البنكية المتعددة؟ الإجابة هي الأتمتة ((Automation. أتمتة النظم المالية أصبحت ضرورة حتمية للتمتع بالقدرة علي التنبؤ بموقف و حجم السيولة المستقبلي، كذا و الحصول علي رؤية آنية جيدة لحركة التدفقات النقدية.
ليس هذا فقط، بللجأت العديد من الشركات إلى الاستثمار في بعض الأنظمة المالية الحديثة المتاحة اليوم و التي تستخدم الذكاء الاصطناعي في التنبؤ و تقديم توصيات للمديرين الماليينفي كيفية استخدام النقد المتاح لديهم. تمنحأتمتة النظم ايضاً درجة عالية من التحكم في التكاليف و هو مطلب أساسي لأي شركةتريد الاستمرار و النمو في جميع الأوقات. كما تتوفر أدوات ادارة المخاطر في بعضتلك الأنظمة و خاصة تلك المتعلقة بقيمة العملة و بمخاطر منتجات المشتقات.
في النهاية، سياسة تسعير مختلفة مطلوبة بالتأكيد، وأنا هنا لا أعني بالضرورة زيادة الأسعار بشكل مباشر، بل بالتحلي بدرجةأعلي من المرونة و ربما الذكاء في التسعير عبر منح أسعار تنافسية لبعض قطاعاتالعملاء أو لبعض الأسواق، قد يكون من الأفضل اتباع سياسات مختلفة للتسعير تبعاًلحجم المبيعات أو تخفيضات مقابل الدفع العاجل.
الزيادات المؤقتة هي واحدة من تلك الخيارات ايضاً و هي تعطي إشارة طمأنينة للعملاء أنالشركة تتفهم الموقف المالي الدولي و أن الزيادة ليست مستمرة للأبد، كقاعدة ثابتة: تطوير وتعميق العلاقات مع شبكة الموردين و العملاء يمثل وسيلة من أهموسائل مواجهة الأخطار الاقتصادية. و لنتذكر ونحن نعمل للغد علي أن مقدرة أي شركة في تقديم خدماتها خلال ظروف إقتصادية صعبة يعطيها وضعية تنافسية أفضل في المستقبل. إبدأ اليوم.