بقلم د. محمود محيي الدين
الخبير الاقتصادي المصري
في الوقت الذي تتعلق فيه الأبصار متابِعةً المأساة الإنسانية في أوكرانيا على الشاشات، ويتساءل فيه الناس عن موعد لنهايتها، يتساقط أبرياء قتلى بلا ذنب، فتحصر أعدادهم سجلات متضاربة الأرقام وفقاً للمصدر.
فبعد عشرة أيام من اندلاع الحرب بلغت أرقام الضحايا 2000 من المدنيين الأوكرانيين و1500 من المقاتلين، بينما سقط من الجانب الروسي 498 مقاتلاً وفقاً لمصادر حكومية وأربعة أمثال هذا العدد إذا صدقت المصادر الأمريكية.
ومع استمرار الحرب سيزداد أعداد القتلى والمصابين وستتضارب الإحصاءات في رصدها لأعداد المفقودين، وستظل الأرقام على سبيل التقريب شأنها في ذلك شأن إحصاءات أخرى متجاهلة ما وراء الرقم من فداحة الخسارة للإنسانية وأسر الضحايا وذويهم وما تتركه في نفوس من عاش بعدهم من فقدان لا يعوض وجروح لا تبرأ. هذا فضلاً على الملايين من المهجّرين داخل بلادهم جراء القصف، واللاجئين خارجها بعدما دمرت ديارهم التي كانوا فيها آمنين فلبثوا بعدها مشردين تُجمع لهم معونات بمناشدات خاصة للأمين العام للأمم المتحدة لجمع 2.6 مليار دولار باعتبارها إغاثة إنسانية عاجلة.
وعن ضحايا الحرب، تحدث رئيس الاتحاد السوفياتي السابق جوزيف ستالين بمقولته الشهيرة «بأن موت مليون إنسان هو مجرد رقم إحصائي أما موت إنسان واحد فهو مأساة»، وفي عهده إبان الحرب العالمية الثانية فقدت بلاده 27 مليون إنسان من المدنيين والعسكريين من إجمالي ضحايا الحرب التي قضت على ما يتراوح بين 70 و85 مليون إنسان، بما يعادل 3 في المائة من سكان العالم في الأربعينات من القرن الماضي. أعداد من القتلى حقاً بالملايين كما قال ستالين، ولكنها ملايين من حالات لمآسٍ إنسانية ليست مجرد إحصاءات.
يخبرنا تاريخ الحربين العالميتين، أن أوبئة وأمراضاً معدية سريعة الانتشار قد أعقبت كلتا الحربين، ولكن هذه الحرب على أوكرانيا تأتي على عالم أنهكت اقتصاده نوائب وأزمات متتالية منذ عام 2008، فلا يكاد يتعافى من واحدة إلا عاجلته أخرى ليظل مترنحاً متخبطاً. وها هي حرب غاشمة لا مبرر لها وإن كثرت التفسيرات، المقنعة حيناً والمتهافتة أحياناً، لمسبباتها.
حرب هي الأكبر في أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في عام 1945، وهي الأخطر في تداعياتها على ما تبقى من النظام العالمي الذي أرست أسسه دروس ويلات الحرب والسعي للاستفادة من عوائد السلام.
وإن كان من شر البلايا ما يضحك من هذه الحرب التي أتت فبدلت اهتمامات الناس بين عشية وضحاها، وكأن جائحة لم تكن! بما دعا النكات تنتشر ساخرة عن فوز الرئيس الروسي بوتين بجائزة نوبل في الطب «لإنجازه في القضاء التام على جائحة كورونا».
وحتى لا يصرفنا الهزل عن الواقع، فـ«كورونا» ومتحوراتها ما زالت تعيث في صحة الناس إهلاكاً وتهديداً بعدما أصابت ما يقترب من 450 مليون إنسان في عامين، منذ الإعلان عنها كجائحة من قبل منظمة الصحة العالمية في شهر مارس من عام 2020.
وقد ذهب أكثر من 6 ملايين من البشر ضحية للجائحة، وما زالت تهدد بشرورها من لم يتحصل على الوقاية منها، خاصة في أفريقيا وكذلك آسيا التي ما زالت بعض دولها تلجأ إلى إجراءات للتباعد الاجتماعي وإغلاق للمنشآت.
ولهذه الحرب آثار وتبعات اقتصادية، أوجزها فيما يلي:
أولاً – زيادة ارتفاع أسعار اشتعالاً، فقبل الأزمة الأوكرانية كان 44 في المائة من الاقتصادات المتقدمة و71 في المائة من البلدان النامية تشهد ارتفاعاً لمعدلات التضخم تزيد على 5 في المائة، ولكن مع ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء، خاصة القمح مع زيادة تكلفة النقل والتأمين سيزداد التضخم حدة، خاصة في البلدان النامية.
ثانياً – اعتماداً على طول فترة الحرب وتأثيرها على إمداد أوروبا بالغاز الروسي كمصدر للطاقة يتجاوز 50 في المائة من إجمالي استهلاك بعض دولها ستتراجع معدلات النمو الاقتصادي والتشغيل، وقد يتحول هذا التراجع إلى ركود في أوروبا وتراجع أكبر في النمو العالمي المقدر حالياً بنحو 4.4 في المائة بعدما كان 5.9 في المائة في العام الماضي.
ثالثاً – طبيعة التضخم المتأثر باضطراب جانب الإنتاج والعرض لا تفلح في القضاء عليه ارتفاعات سعر الفائدة ومع احتمال تراجع النمو وعودة مخاوف الركود التضخمي سيؤدي إلى مراجعة السياسات النقدية التي كان مخططاً لها بمعنى أن الاتجاه لرفع أسعار الفائدة من البنوك المركزية الرئيسية سيظل قائماً، لكن ليس بالسرعة والارتفاع اللذين كان يعد لهما قبل الحرب. وسيلجأ في هذه الأثناء لإجراءات تحرك جانب العرض وتحفيز الإنتاج أكثر من تحجيم جانب الطلب.
رابعاً – فيما يتعلق بالتجارة الدولية ستعود المطالب لتنويع مصادر الاستيراد وإعادة تشكيل خطوط الإمداد العالمية وعدم الاعتماد على مصادر للسلع الأساسية، بما في ذلك الطاقة تشوبها مخاطر جيوسياسية عالية، كما سيعجل ذلك بالاستثمار في مصادر الطاقة البديلة مغلبة باعتبارات الأمن القومي، وليس التكلفة والعائد فقط. كما ستراجع سياسات إغلاق المحطات النووية التي تعجلت فيها بعض الدول الأوروبية بعد حادث فوكوشيما، بعد الإعصار الذي ضرب اليابان في عام 2011.
خامساً – ستزداد احتمالات التعثر في سداد الديون جراء زيادة التضخم وتراجع النمو وارتفاع تكاليف الاقتراض، بما يؤكد المخاطر التي أشرنا إليها من قبل والمرتبطة بما يعرف بالموجة الرابعة للديون الدولية، والتي يعترض كفاءة التعامل معها قصور نظم تسوية المديونية وإعادة هيكلتها، خاصة في ظل التوتر السياسي الدولي والاستقطاب الشديد من جراء الحرب الراهنة والنزاعات التجارية بين القوى الاقتصادية التقليدية والصاعدة.
سادساً – ستثقل موازنات الدول بتكاليف إضافية في بنود الإنفاق العسكري والدفاع عن الأمن السيبراني لشبكات ونظم المعلومات، وقد أعلنت دول أوروبية عدة زيادة إنفاقها العسكري لأكثر من 2 في المائة من الناتج المحلي، بما في ذلك من آثار على أعباء الموازنات العامة وأولوياتها.
سابعاً – ما جرى من «تسليح للأدوات والآليات المالية» ستكون له عواقبه، بغض النظر عن الاتفاق أو عدمه على مقاصده المعلنة من فرض عقوبات اقتصادية للضغط لإنهاء الحرب. فتجميد أرصدة البنك المركزي الروسي من الاحتياطي النقدي سيجعل دولاً أخرى تعيد النظر في اتباعها لمنظومة تكوين احتياطي دولاري للتوقي من مخاطر تقلب موازين المدفوعات باحتفاظها بأرصدة دولارية بعائد منخفض ظناً منها بأنها مقابل خطورة منخفضة وسيولة عالية، وهو ما تبين خطأه الفادح في حالة روسيا في ظروف الحرب.
كما يأتي استخدام نظام الرسائل المعتمد بين المؤسسات المالية في تحويل الأرصدة المالية المعروف اختصاراً بـ«سويفت»، يأتي استخدامه للمرة الثانية ضد روسيا ليعجل من تأسيس بديل كانت شرعت فيه بعض البنوك المركزية بعد تبينها مخاطر تكنولوجية في استخدامه، فضلاً عن المخاطر السياسية. هذان بعدان استجدا في مخاطر النظام النقدي الدولي وتسييسه، بل وتسليحه في إطار الحرب الدائرة وسيكون لذلك ما بعده.
يخبرنا التاريخ أن لكل حرب نهاية، ولكن قبل أن تصير ذكرى أو أوراقاً في سجل الزمن تصحب نهايتها المآسي الإنسانية، تماماً كما وصفها الشاعر الفلسطيني المبدع محمود درويش:
«ستنتهي الحرب
ويتصافح القادة
وتبقى تلك العجوز تنتظر ولدها الشهيد
وتلك الفتاة تنتظر زوجها الحبيب
وأولئك الأطفال ينتظرون والدهم البطل
لا أعلم من باع الوطن
ولكنني رأيتُ من دفع الثمن!»
نقلا عن الشرق الأوسط